متى تعي الأمة ذاتها؟
شبكة البصرة
فؤاد الحاج
بينما كنت أطالع بعض كتب التاريخ وصلتني رسالة من صديق جاء فيها: “هل سمعتم بطوشة الستين أو طوشة النصارى عام (1860)؟”
مصيبتنا الكبرى أننا لم نقرأ التاريخ الذي يعيد نفسه. (طوشة الستين أو النصارى) كما سمّاها العوام في دمشق حدثت عام 1860، وجرت بين فئات من “المسلمين” والمسيحيين في دمشق بأيد ودعم خارجي، والتي هُدم بنتيجتها أجمل الأحياء الدمشقية، كالقيمرية وباب شرقي وباب توما وساروجة ومحيطاتهم وغيره الكثير من الأماكن الأخرى، كما استشهد فيها آلاف الأبرياء من الدمشقيين وكانت غالبيتهم من المسيحيين، ولكن لهذه الفتنة قصة وهي خلاف ما قامت لأجله، لذلك أدعو الجميع لقراءة وفهم موجز ما حدث.
كانت بلاد الشام وقتها تحت حكم “الخلافة الإسلامية العثمانية”، وكانت الشام تشتهر بإنتاج الحرير الطبيعي والبروكار (البروكار الدمشقي من أشهر وأفخر أنواع الأقمشة والمنسوجات من الحرير في العالم)، والحرير كان المادة الخام ذات الأهمية الكبرى في ذاك الزمان 1840/1865 (كما هي حال النفط والغاز اليوم).
إنتاج وصناعة الحرير كان يتمّ في دمشق وفي حي القيمريّة تحديداً (كانت القيمرية تسمّى الهند الصغرى) ويتمّ تصديره للعالم عن طريق مرفأ صيدا السوري (اليوم لبنان).
كانت الدول الأخرى المنتجة للحرير يومها هي فرنسا والصين. وشاء القدر أن يصيب مرض فتّاك دودة القزّ في فرنسا والصين فباتت الشام قبلة العالم وبدأ عصر من الازدهار والانتعاش الاقتصادي، بل وحتى الريادة بإنتاج البروكار (خاصة من خلال عائلة دمشقية: عائلة بولاد).
حاول الفرنسيون، عن طريق إقناع العائلات المسيحية التي تنتج الحرير (تحت مسمّى طائفي) بالقدوم للجزائر (وكانت تحت الاحتلال الفرنسي يومها) لكي تبقى فرنسا محتكرة لهذا القطّاع. طبعاً، رفضت هذه العائلات هذا العرض “لأننا سوريون قبل كل شيء”، فكانت المؤامرة!
وتم اختلاق فتنة تحت مسمى الطائفية بين “المسلمين والمسيحيين”، واستمر القتل بينهم والخراب في دمشق وامتدت الفتنة يومذاك لتشمل مناطق عدة في جبل لبنان. (الدافع اقتصادي والفتنة الطائفية هي كذب وبهتان) وأحرقت نتيجتها كل معامل الحرير في حيّ القيمرية (مركز الحرير العالمي) وأحياء المسيحيين في دمشق!
* العبرة من القصة:
منذ عصور طويلة، يحاربون بلادنا حال تسعى للنهوض، وأغلب هذه الحروب بأياد محليّة حمقاء جاهلة!
أليس هذا ما يحدث اليوم!
أما آن الأوان لهذه الأمة أن ترفض هذا المصير؟
أما آن الأوان لوأد الجهل والخيانة في بلادنا؟
أما آن الأوان للحمقى أن يفهموا أن اللبوس ديني والمضمون اقتصادي استعماري بحت؟
بعد هذه الرسالة المعبرة والتي نقحتها، ماذا يمكن أن أكتب سوى ما يلي: أن من يريد معرفة حقائق ما جرى عبر التاريخ، عليه أن يطالع تاريخ هذه الأمة بعين فاحصة، بعيدا عن التشنج والطائفية والمذهبية، وأن يدقق ما بين السطور في أكثر من مصدر من مصادر رواة وكتّاب التاريخ، وأن يقارن بينها وبين ما يجري اليوم في بلاد الحضارات البشرية الأولى، التي هي محط أطماع قوى خارجية إقليمية ودولية، والمساعدون لهم من الأغبياء من أبناء هذه الأمة، حيث سيجد في النهاية أن أرض الوطن الذي كان كبيراً بأحلامنا وتطلعاتنا، أن كل الحروب التي دارت وتدور به إنما هي حروب الآخرين على الأرض العربية، بأيد داخلية وبأسلحة من قوى الشر التي تريد الحفاظ على مصالحها الاقتصادية، وما زرع الكيان الصهيوني في قلب بلاد العرب سوى محطة للحفاظ على مصالح المتربصين بهذه الأمة لمنع تقدمها وازدهارها، وكذلك حماية أنظمة الاستبداد من المحيط الأطلسي إلى الخليج العربي، ما أفسح المجال لتدخل القوى الإقليمية المجاورة في الشؤون الداخلية لكل قطر عربي، وزرع بزور الفتن الطائفية والمذهبية، ما أدى إلى فرار الكفاءات العلمية والأيدي الصناعية والثقافية في كافة المجالات!
الحديث يطول والبكاء على الأطلال لا ينفع إذا لم تعي الأمة ذاتها.
25/9/2019
شبكة البصرة
الثلاثاء 25 محرم 1441 / 24 أيلول 2019