الموسيقار سالم حسين الأمير يتذكر: أيام كان حضيري أبو عزيز شرطيا ويغني: لا طاير ولا حاط |
شبكة البصرة |
علي ناصر الكناني |
* يعد الفنان الرائد وعازف القانون المعروف والملحن المبدع الموسيقار سالم حسين الامير واحدا من مبدعي العراق في عالم الموسيقى والغناء، حتى عد اميرا لها، لما حققه من انجازات فنية رائدة ومتميزة في هذا المجال، الى جانب امكاناته الابداعية الاخرى في مجال البحث والتدريس ونظم القصائد الغنائية التي قام بادائها ابرز المطربين والمطربات العراقيين والعرب على مدى سنوات طوال ونالت شهرة واسعة في عالم الغناء والموسيقى الشرقية.
* يعيش الفنان الامير منذ سنوات في (قدسية) وهي احدى ضواحي العاصمة السورية دمشق، وهناك سنحت لي فرصة اللقاء به اثناء زيارتي الاخيرة لسوريا. ما ان وصلنا الى الشقة التي يسكنها حتى استقبلنا وابنته السيدة الفاضلة سوسن التي تعيش معه بترحاب كبير ينم عن دماثة خلقه الجنوبي الرفيع وعراقيته الحميمة، ولعلي هنا ادين بالفضل للزميل الصحفي عكاب الطاهر صديق العائلة الذي رافقني في هذه الزيارة وسهل علي مهمة الوصول الى بيت الفنان.
* لقد تحدث لي هذا المبدع الثمانيني عن ارثه وتراثه الفني الرائق الذي تمتد حصيلته كما يقول هو لسبعين عاما من عمره وحياته وعن عشقه اللامحدود للموسيقى والغناء العربي والعراقي الاصيل منذ طفولته وسنوات العمر الاول.
• المحطة الأولى: * سالته ان تكون محطتنا الاولى في هذه الرحلة الاستذكارية هي التعرف على ملامح البدايات الاولى من مسيرته الفنية وحياته وعمره المديد الذي يمتد لخمسة وثمانين عاما.. فقال : الفنان لا يقاس بعمره الزمني وانما بحجم عطائه الفني والابداعي.. إنني من مواليد شتاء عام 1923 في قضاء سوق الشيوخ في مدينة الناصرية التي كانت ضمن لواء المنتفك. امضيت طفولتي وصباي هناك، وكنت دائم التردد على منطقة ريفية جميلة تابعة للقضاء تسمى العكيكة، وكنا نذهب اليها بواسطة زوارق صغيرة ممتعة تسمى (المشحوف) و (الجليكة) و (الكعد). توفي والدي عام 1927 وهي الفترة التي أكمل فيها اخي الاكبر مني سنا دراسته في دار المعلمين في بغداد. ما زلت اتذكر ذهابي وعائلتي لاستقباله في محطة اور التي كان يتوقف فيها القطار الذاهب الى البصرة ليلا، فلفت انتباهي شيء غريب الشكل مغطى في كيس من القديفة كان يحمله في يده ولم اجرؤ لحظتها على ان اسأل اخي عنه. في مساء اليوم التالي ذهب اخي الى احد بيوت اصدقائه وكان يعمل طبيبا واصطحب معه ذلك الشيء، وبعد لحظات تبعته الى ذلك البيت ورحت استرق النظر والسمع من وراء سياج الحديقة القصبي، فسمعت صوت عزف موسيقي جميل من تلك الآلة التي جلبها معه اخي الكبير، ولكن نباح احد الكلاب هناك واقترابه مني قطع علي لحظات الاستمتاع بالموسيقى فوليت هاربا باتجاه منزلنا يجتاحني شعور غريب يدفعه الفضول بأن اسأل اخي عن هذه الآلة واسرارها. أنتهزت في اليوم الثاني فرصة قيام اخي بالعزف عليها فأخبرني انها تسمى العود وقد درس وتعلم العزف عليها خلال وجوده في بغداد. ثم اخرج لحظتها آلة اخرى من حقيبة كبيرة سوداء فتبين أنها جهاز الكراموفون او (صندوق اليغني) وقد وضع فيه اسطوانة لام كلثوم وكانت الاغنية على ما اذكر (مالي فتنت بلحظك الفتاك). لم تكن سوق الشيوخ تعرف الكهرباء بعد، فقد وصلت اليها في الثلاثينيات. حفظت اغلب اغنيات ام كلثوم وعبد الوهاب والشيخ سلامة مجازي وانا ما زلت صغيرا في السن، كما استمعت الى اسطوانات مطربين عراقيين من بينهم ناصر حكيم وحضيري ابو عزيز. في عام 1929 دخلت المدرسة الابتدائية في الصف الاول في مدرسة سوق الشيوخ، وكنت انا واخي الاصغر مني داوود نمتلك صوتا جميلا في قراءة الاناشيد وكان معظمها بالتركية ولم تكن جميلة في حينها. كنت اصر على حفظ اغاني ام كلثوم وعبد الوهاب من الاسطوانات وحاولت اكثر من مرة ان اجرب العزف على العود الا انني بحكم كوني ما ازال صغيرا في السن فبدا ثقيلا وحجمه كبيرا ولا يمكنني السيطرة عليه. جلب لي اخي آلة موسيقية هارمونيك صغيرة يعزف بها بواسطة تحريكها بالفم، كذلك الفيفرا، وكان اخي الكبير شاعرا وموسيقيا جيدا وملما بالادب والفن. في عام 1932 حضرت احدى الحفلات الشعبية في سوق الشيوخ واستمعت فيها للمطرب والشاعر ملا شنين والملا جادر، وصادف وجود احد الاشخاص وكان يرتدي زي الشرطة ويحمل في يده بندقية فجلس في الصف الامامي بعد ان وضع بندقيته وسدارته الى جانبه وبدأ يغني بصوت جهوري جميل في اغنية كان مطلعها على ما اذكر : “لا طاير ولا حاط خلاني أحومي” فعرفت فيما بعد انه المطرب الريفي حضيري ابو عزيز الذي اشتهر باجادته لطور الحياوي. واود ان اشير هنا الى ان اول اسطوانة ظهرت كانت لشركة نعيم، تعود للمطربة مسعودة العمارتلي والتي تطلق على نفسها اسم (مسعود العمارتلي) وهي اغنية (سودة اشلهاني) والتي غناها ايضا المطرب ناصر حكيم. وهنا اود ان اذكر ان هذه المهرجانات الغنائية التي كانت تقام في سوق الشيوخ انذاك تقام في اوقات وموسم جني التمور وكبسها، وهي مشابهة لما يقام في مدينة تستور في الاندلس اضافة الى اوجه التشابه بينها وبين مدينة سوق الشيوخ من حيث الابنية والطراز البنائي لمعالمها.
• ملامح النهضة الغنائية : في عام 1933 ظهرت اسطوانة لسليمة مراد لاغنيتها المشهورة “كولوله مبي لوله” والتي نالت حظا وافرا من الشهرة واعجاب الناس آنذاك، بيد أنني استبدلت يومها هذه الاسطوانة مع احد معارفي مقابل اعطائي اسطوانتين لام كلثوم وابي العلا، لكوني كنت اميل انذاك الى الغناء المصري. كنت ما ازال في مرحلة الدراسة الابتدائية. في عام 1934 بدأت بنظم وكتابة الشعر وتلحينه فأعجب بذلك معلم النشيد وشجعني على ذلك وقد اعتبر ما نظمته ولحنته نشيدا خاصا بالمدرسة. في عام 1952 بدأت ملامح النهضة الغنائية تظهر على الساحة الفنية من خلال تسجيل الاسطوانات بأصوات المطربين الرواد والذين من بينهم محمد القبانجي وناصر حكيم ومسعود العمارتلي، ثم اعقبهم حضيري ابو عزيز وداخل حسن والمونولوج الذي اداه المطرب ملا عبد الصاحب الذي يعد من اوائل المطربين الذين قدموا هذا اللون من الغناء.
• المحطة الثانية باتجاه بغداد: * في عام 1936 سافرنا الى بغداد بطلب من اخي الكبير الذي تم تعيينه كمدرس في المدرسة الجعفرية، وقررت اداء الامتحانات للمرحلة المتوسطة بصفة خارجي. وفي عام 1938 كان يقام في بيتنا ببغداد مساء كل يوم خميس مجلس ادبي وثقافي يحضره العديد من الشخصيات الادبية والثقافية من بينهم الشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري ومحمود الحبوبي وصادق الملائكة والد الشاعرة نازك وصادق الاعرجي وعبد الرحمن البنا ومحمد حسين الشبيبي وعبد الغني الجرجفجي الذي كان مديرا للمعارف في بغداد. ويواصل الامير حديثه قائلا : كنت اذهب في يوم الجمعة الى بيت الشيخ محمد رضا الشبيبي لحضور مجلسه الذي كان يحضره العديد من الشعراء والادباء من بينهم الشيخ محمد علي اليعقوبي وحسين الشعرباف الذي اسس هو الاخر مجلسا ادبيا خاصا به، فكنت احفظ الشعر الذي كان يلقيه الشيخ اليعقوبي، كما كان يحضر هذا المجلس ايضا الاديب الكبير جعفر الخليلي وعبد الهادي الدفتري.
• الدخول إلى معهد الفنون الجميلة: * وفي عام 1945 وبعد ان انهيت الدراسة المتوسطة بنجاحي في الامتحان الخارجي دخلت معهد الفنون الجميلة وكان معي من الطلاب سلمان شكر وجميل بشير وغانم حداد ومنير بشير الذين صاروا فيما بعد من عمالقة الموسيقى في العراق، اما من ابرز اساتذتي فكان يدعى نوبار وهو من اصل تركي وكان مع القصبجي وسامي شوا في مصر ولديه اسطوانات معهما، اما مدرس الناي فكان الشيخ علي الدرويش من سوريا. كان اسم المعهد في الثلاثينيات (معهد الموسيقى) وعميده هو الشريف محيي الدين حيدر، والذي درست العود على يد احد طلابه. في عام 1945 تم افتتاح فرع (للقانون) فدخلت فيه واكملت منهاج الست سنوات وهي مدة الدراسة فيه بسنة واحدة. في عام 1947 تم افتتاح دورة في معهد الفنون في السليمانية، فرشحت للتدريس هنالك وكان معي فنانون اخرون منهم: غانم حداد وجميل بشير واسماعيل الشيخلي لتدريس الرسم. وفي عام 1948 درست البيانو اضافة الى القانون على يد الاستاذة بياتريس اوهانيسيان، وكان معي من الطلبة الفنانين رضا علي ومحمد كريم، وبعد ان اكملت الدراسة في البيانو بنفس العام وبامتياز قمت بتحويل نوتات البيانو الى القانون، على الرغم من انني اصطدمت لاكثر من مرة مع مدرس القانون لانه يرى خلاف ذلك، وبذلت جهودا كبيرة لكي اتميز واتفوق في العزف على القانون مستخدما اربع ريش وليست اثنتين كما هو المعتاد. وفي اواسط الاربعينيات تمكنت من تأسيس فرقة موسيقية ضمن شركة سومر السينمائية، وكان من اعضائها عبد الرحمن توفيق الذي صار فيما بعد من مقرئي القرآن الكريم المعروفين.
• الدخول إلى الإذاعة: * في عام 1947 دخلت الاذاعة كعازف مقابل اجور شهرية مقدارها اربعة دنانير ونصف الدينار. وانا اول من عزف في التلفزيون عام 1954 عندما قامت بتأسيسه شركة باي في معرض بغداد. وفي عام 1956 تم تأسيس ستوديو خاص بتلفزيون بغداد، فكنت اقدم حفلات موسيقية على الهواء مباشرة.
• العلاقة بالقبانجي واللحن الذي لم يغنه ناظم الغزالي : * ويستطرد الفنان الرائد سالم حسين في حديث الذكريات ليروي لنا جانبا منها بقوله : كانت تربطني علاقة وثيقة جدا برائد المقام الفنان الكبير المرحوم محمد القبانجي والذي بدأت معرفتي وصداقتي به خلال حضورنا حفل تتويج الملك فيصل الثاني والذي خلاله تم منح القبانجي وسام الدولة الخاص تقديرا لجهوده ومكانته الفنية، كما كنت استمع ايضا الى المطرب حسن خيوكه وهو يغني مقام الرست. وهنا لابد من أن اشير الى ان هناك عازفين موسيقيين معروفين كان لهم الفضل في المحافظة على الموسيقى والتراث الموسيقي في العراق انذاك ومنهم صالح الكويتي وداوود الكويتي واللذين جاءا من المحمرة وسكنا بغداد.
• قلت له ومن من المطربين العراقيين والعرب قد غنى الحانك؟ فاجاب قائلا: * لقد نظمت العديد من الاغنيات ولحنتها وقدمتها للعديد من المطربات العراقيات ومنهن صبيحة ابراهيم ومائدة نزهت ولميعة توفيق وسليمة مراد وخالدة ونرجس شوقي واخريات، ومن المطربين والمطربات العرب فقد غنى لي وديع الصافي وسعاد محمد وفائدة كامل واسماعيل شبانة شقيق المطرب عبدالحليم حافظ غنى لي الاغنية الشهيرة (الناصرية). في عام 1983 احال سالم حسين نفسه على التقاعد بعد ان تخرج على يديه الكثير من الفنانين الموسيقيين ليعمل بعدها مستشارا فنيا في معهد الدراسات الموسيقية وبيت المقام العراقي وخبيرا في وزارة الثقافة والاعلام سابقا.
• مسك الختام : وفي ختام اللقاء سألته ان يحدثني عن آخر اعماله الفنية التي قدمها الى بغداد في يومها فقال: لقد اعددت لبغداد الحبيبة انشودة رائعة هي ابيات من قصيدة نظمها العلامة والشاعر الكبير الدكتور مصطفى جمال الدين رحمه الله ولحنتها وقدمتها بصوت المطربة السورية المبدعة فاتن صيداوي ومطلعها يقول : بغداد ما اشتبكت عليك الأعصر إلا ذوت ووريق وجهك أخضر
لقد حضرتُ لمهرجان الزهور العالمي الذي احتضنته عاصمتنا العزيزة بغداد التي هي في سويداء القلب والروح والتي ستبقى كما كانت سابقا شامخة لا يداني علوها وكبرياءها شيء لانها ستظل ابدا عاصمة للحضارة والابداع والرقي ومناراً للثقافة والفن وهي تستحق منا جميعا الكثير الكثير.. الفنون الجميلة 13/8/2011 |
شبكة البصرة |
الاربعاء 18 ذوالقعدة 1436 / 2 أيلول 2015 |
يرجى الاشارة الى شبكة البصرة عند اعادة النشر او الاقتباس المقالات والتقارير والاخبار المنشورة في شبكتنا لا تعبر عن راي الشبكة بل عن راي الكاتب فقط |