لمحات عن تاريخ الكتابه العربيه… وحقيقة الاُميه المزعومه
د. مروان عقراوي
شاهد صورة :
http://www.albasrah.net/ar_articles_2015/0715/3aqrawi_300715.htm
بُث في الايام القليله الماضيه برنامج عن نشأت وتطور الكتابة العربيه. وكعادة المواضيع التي تتناول التاريخ العربي، افترضت حقائق ليس لها ادله تاريخيه سوى بعض القصص التراثيه من عهود التخلف من القرون الوسطى، والاحكام المسبقه من قبل المستشرقين. ومن هذه القصص فَرضية ان العرب الناطقين بالفصحى، والعرب في الجاهليه عموما، كانوا اُميون لايقرأون ولا يكتبون، منطلقين من مصطلح “الاُميه” في الآيه ” هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ” ومن التفسير السطحي لمصطلح الجاهليه.
ان مصطلح “الاُميين” في حقيقته مصطلح “ديني” يعني من هم ليسوا اهل كتاب سواء كتبوا او لم يكتبوا، وقد يعم ذلك المصطلح ليشمل كل من هم ليسوا اهل الكتاب، او ينحسر ليقتصر على بني اسماعيل تحديدا. حيث يشار الى ذلك في “العهد القديم” من الكتاب المقدس الى “الاخوة” بين بني اسرائيل وبني اسماعيل، ووصف بني اسرائيل بالامه “المتعلمه” لانهم اهل كتاب، ووصف بني اسماعيل بالامه الجاهله او “الاميه” لانهم ليسوا اهل كتاب. والآيات القرآنيه الوارده في هذا الخصوص توازي هذا المعنى تماما “وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ ۚ” وها هي تلك المقارنه مرة اخرى بين بني اسرائيل وبني اسماعيل.
كما افترض البرنامج ان العربَ لم يكتبوا لعدم وجود حاجة لهم بها، مع العلم ان من يذكر تلك الفرضيات السطحيه يذكر وقائع اخرى ترجع الى عهود ما قبل الاسلام، تناقض ذلك الادعاء، ومأخوذة من نفس هذا التراث المشوه. فالمعلقات كُتبت وعُلقت على جدران الكعبه، ومقاطعة مشركي قريش للمسلمين الاوائل كُتبت بنودها وعُلقت على الكعبة، واشترط على اسرى المشركين تعليم 10 صبيه من المسلمين لقاء حريتهم، وهؤلاء المشركين كانوا حنودا عاديين وليسوا من النخبه الاجتماعيه، وصلح الحُديبيه كُتب ووثق على الرِق، وكُتبت ايضاً معاهدة المدينه بعد الهجره. ان تلك الشواهد البسيطه تدل على ان العرب عرفوا الكتابة وألفوا استخدامها، والا لماذا تم كتابة تلك المواثيق والمعاهدات؟! ولماذا تم تعليقها في المناطق العامه؟! لماذا كُتبت ولمن عُلقت إذاً؟!
الشواهد الاثريه لنقوش مكتوبه بخط الجزم، او ما نسميه اليوم اصطلاحا بالخط العربي، والخط النبطي، والمسند، والكنعاني، موجوده على طول ارض الحجاز وتمتد شمالا الى بلاد الشام، وهذه النقوش تعود بالزمن الى قرون سبقت الاسلام، وهذا يفند نظرية اُميّة تلك البلاد او انقطاعها عن الكتابه حتى اُختراع خط الجزم. وان اقدم النقوش المكتشفه المكتوبة بخط الجزم وجد في الشام ويعود الى الالف الاول قبل الميلاد. ان ولادة او تطور خط كتابة ما لايعني ولادة لغة ذلك الشعب، او ولادة ذلك الشعب باسره. وقد استخدم اكثر من خط للكتابه في ان واحد. والامر ذاته ينطبق على الكتابه المسماريه واستخدامها من قبل الاكديين والعموريين والاراميين.
كان “طريق البخور” التجاري الممتد بين ساحل الشام شمالا واليمن جنوبا، المار بالحجاز وعسير، كان عصب التجاره العالميه في حينه، يربط بين اوربا والبحر المتوسط غرباً، والهند والصين شرقاً، والذي ذكره القران “برحلة الشتاء والصيف،” وليس من المنطق والعقل ان تكون التجاره العالميه تدار من قبل اناس أُميون، بالاضافة الى الفرصه التي يوفرها هذا الطريق للاطلاع على ثقافات مختلفه ويتيح فرصة اكتساب الكتابة اذا ما افترضنا امية تلك البلاد في المقام الاول.
ان ذلك الموقع المتميز للحجاز وعسير والواقع على خط التجارة الدوليه، اعطى لتلك البلاد اهمية امنيه وتجاريه، ومهد لقيام كيانات سياسيه كمملكة اللحيانيين والمعينيين في الالف الاول قبل الميلاد. الذين كان لهم علاقات مع بابل والكنعانيين ونبط الشام، وامتد نفوذهم في بعض الاحيان الى سواحل المتوسط، الامر الذي ادى بملوك العراق ومصر الى شن حملات عسكريه لاخضاعها، كحملة “آشور أخو إدّين – اسرحدون” الملك الآشوري، وشيشانق الملك المصري، وحملة البابلي “نبوخذ نصر – نبو بخت نصر” الشهيره، وقد ذكرت كتب التاريخ العربيه القديمه فتوحات هؤلاء الملوك في الحجاز وعسير. بل ان “نبو نائيد” الملك البابلي وخليفة نبوخذ نصر قضّى معظم حياتة في “تيماء” احدى حواضر الحجاز. وفي العهد الروماني كان للحجاز ممثلين لدى ملوك الشام ومصر والحبشه، وان شعب تلك البلاد هو الذي مهد لانطلاق تلك الحضاره العربيه العظيمه في العهد الاسلامي، فهل من العقل ان يُنجز كل هذا على يد حفنة من البدو والاميين؟!
لم يولد خط الجزم هكذا فقط لتنبه العرب الى حاجتهم الطارئه الى الكتابه كما هو التفسير الساذج، بل ان الابجديه العربيه هي “حلقه” متصله مع ما قبلها من خطوط عربيه قديمه كالكنعانيه والنبطيه والاراميه، ومرحلة “تطور” طبيعي لفن الكتابه، وقد عالج ذلك الخط بعض المشاكل التي رافقت الكتابه منذ بدئها، ولا يمكن ان يكون هذا نتيجة مصادفة قام بها بعض البدو الجهله.
فيما يخص الاحرف المصمته، لقد راعى الخط العربي تباين الالفاظ بين اللهجات العربيه الفصيحه، واللهجات العربيه الغير فصيحه عن طريق استخدام احرف تشترك بالشكل. مثلاً: الابدال بين احرف التاء، والثاء، والسين، والشين. فيقال ثعلب وتعلب، وسعلب وشعلب. وهذا ينطبق على معظم الاحرف المتشابهه بالشكل. حيث لم يدخل الاعجام على خط الجزم الا في العهد الاسلامي.
وقد عالجت الابجدية العربيه مشكلة كتابة حروف العِله. هنالك حروف عله” قصيره” التي لم تكتب، ثم اُشير عنها بالحركات لاحقا، وحروف عله “كامله” وكُتبت على انها احرف كامله، وحروف عله “ممدوده” كتبت كما تكتب الاحرف الكامله من دون تمييز.
كانت كتابة حروف العله مشكلة حاول الخط السرياني والكنعاني وغيرها حلها، اذ لم يكن هنالك نظام يميز بين اطوال تلك الاحرف، وكان علاجها في كثير من الاحيان “بإهمال” كتابة معظمها كما هو الحال في التوراة العبريه، وهي مشكلة قائمه الى اليومنا هذا في فهم بعض نصوصها. ثم قدم الخط الارامي حلاً مرحليا لكتابة حروف العله، يعد بمثابة مرحلة انتقاليه بين كتابة حروف العله في الكنعانيه الفينيقيه، وكتابتها كما نعرفها اليوم. وقد يكون هذا احد اسباب استمرار استخدام الخط المسماري في العراق لقرون طويله بعد اختراع الابجديه، حيث لم يكن الخط المسماري ابجدياً، بل مقطعيا تتكون حروفه من صوتين، احد هذين الصوتين في الغالب حرف عله. على الرغم من ان الخط المسماري لم يكن عمليا لكثرة احرفه التي تتجاوز الخمسين بكثير، الا انه وفر حلا لكتابة حروف العله.
تتكون جميع الابجديات العربيه القديمه: كنعانيه وعبريه وسريانيه، من 22 حرفاً، من “أبجد” حتى “قرشت” وإزدادت عنها الابجديه العربيه بالاحرف الفصيحه المتبقيه في ” ثخذ ضظغ.” وقد اطلق العرب الكنعانيون اسماء على احرف الابجديه تبدء بنفس الحرف، وجميع هذه الاسماء لها معاني وهي موجوده ايضا في الابجديه العربيه: الف – ثور، بيث – بيت، قوف او قاف – ثقب ابرة الخياطه، كاف – كف، ميم – يم بحر، نون – سمك حوت، الخ. ان هذا دليل آخر على ترابط وتداخل خط الجزم مع الخطوط العربيه القديمه، ويبين ان خط الجزم ليس نقطة بدايه لما بعده، بل نقطة نهايه لما قبله.
ان هذه المعالجه وهذا التطور لفن الكتابه الذي مثل الخط العربي ذروته، لايمكن ان يكون مجرد اختراع طارئ من قبل بعض البدو في الصحراء! ان الخط العربي هو الحلقه الاخيره لسلسه طويله من الابداع، المتصل مع مراحل التاريخ كافه، والضاربه في القدم. لا اعلم من اين اتى هؤلاء المؤرخين بتلك “الحواجز الخياليه” بين سكان الحجاز وعسير واليمن والشام والعراق ومصر! وكل الادله الماديه والعلميه تناقض تلك “الاحكام المسبقه” و”المفاهيم السطحيه” للكثير من المتدينين والموؤرخين.
ومن الجدير بالذكر ان بلاد عسير في غرب الجزيره العربيه مليئه بالنقوش والكتابات القديمه جداً التي لم يتم قراءتها الى يومنا هذا، لاهمال المؤرخين والاثاريين لها بالرغم من ملاحظة الكثيرين لذلك، من هيرودت حتى فيلبي. وان اسماء مدن وبلدات الحجاز وعسير واليمن هي خليط من لهجات عربيه قديمه مختلفه كالاراميه والكنعانيه والعبريه بالاضافة الى الفصحى، كيثرب وينبع وتبوك…
ولناخذ اسم منطقة “تهامه” المعروفه على سبيل المثال، وهي الساحل الصحراوي لغرب الجزيره العربيه، والكلمه مشتقه من الجذر العربي “هامَ” وتعني شدة العطش، ومنها كلمة “هيام.” حيث ان ذلك الساحل شديد الجفاف ويكاد يمتص جميع سيول الامطار المنحدره من جبال السراة والمتجة صوب البحر الاحمر. الا ان بناء الكلمه ليس فصيحاً، فالاسم مسبوق بتاء التأنيث الاراميه او الكنعانيه “تهامه” ولو كانت صيغة الاسم فصيحه لاُلحق الاسم بتاء التأنيث المربوطه واصبح “هامة.” ان هذه الملاحظه بالاضافة الى النقوش المكتشفه تشير الى ان تلك اللهجات وخطوط كتابتها قد تم استخدامها بصورة متزامنه، الا ان الامر لازال يحتاج الى بحث دؤوب.
ان هذه الامثله البسيطه والاساسيه تشي بالكثير عن تاريخ ذلك الجزء العزيز من وطننا العربي، وتناقض الفرضيات الغربيه لتاريخنا القديم، لغوياً وثقافياً وجغرافياً، وتدعونا الى اعادة دراسة تاريخنا العربي القديم دراسه علميه سليمه تاخذ جميع عوامل التاريخ بعين الاعتبار، وبعيده كل البعد عن الصوره النمطيه لما يقال لنا عن تاريخنا.
للاسف، ان من يَكتب ويُدَّرس تاريخنا العربي يعتمد بالاساس على خرافات تراثيه ليس لها اي اساس من الصحه، وسذاجه الى الحد الذي لا توافي فيه التعاريف الاساسيه للمصطلحات، وتلك الخرافات تنسب الى الدين بشكل او باخر، مما يعطيها حاله من القداسه التي تمنع التفكير والتفكر.
ولا يسعنا هنا الا ان نقول سبحان الذي بعث في الأُميين إماماً ﷺ.
شبكة البصرة
الخميس 14 شوال 1436 / 30 تموز 2015