المنظور والمغمور في الذي يجري |
صلاح المختار |
بعد العدوان الثلاثيني في عام 1991 وتشديد الحصار على العراق كوسيلة لتركيعه نشرت عدة مقالات حول الاهداف البعيدة للعدوان المغمورة تحت مياه معتمة، وكانت الاطروحة الرئيسة هي ان ما يجري للعراق تمهيد لتغييرات جذرية تشمل دول الخليج العربي تتوج بجعلها منطقة استثمارية صناعية وانهاءها كدول وتصبح من اهم مناطق العالم التي تعتمد عليها امريكا في مواجهة العمالقة الصاعدين خصوصا الصين والهند على المدى البعيد -وقتها- وروسيا في وقت اقرب، وضمن ذلك وجود مؤشرات على ان العراق الذي وضعت خطة لتقسيمه منذ عقود وجاء الغزو في عام 2003 لتنفيذها سوف يشهد تحولات تصب بهذا الاتجاه. والسؤال المهم الان هو: ما صلة ما يجري في البصرة بذلك المخطط؟
1- من المهم جدا ان نتذكر بان تلويث العراق بدأته امريكا عمدا عندما لم تكتفي باستخدام اليورانيوم المنضب عندما شنت الحرب على العراق في عام 1991 بل لوثت مزارع النخيل في البصرة ببكتيريا قتلت اكثر من ثلثي النخيل قبل احتلال العراق فماتت ملايين النخيل والتي كانت البصرة مشهورة بها وكان عددها يزيد على 30 مليون نخلة. اما اليورانيوم المنضب فقد لوث بيئة العراق في الجنوب بصورة كارثية ادت الى تعاظم السرطانات فيه، وترك الاف القطع الحربية المحطمة عراقية وامريكية في الجزيرة العربية وجنوب العراق وهي مشبعة باليورانيوم والذي تسرب الى اعماق الارض واختلط بالمياه الجوفية في السعودية والعراق والكويت. وكذلك استخدم بكثافة في وسط وشرق وغرب العراق وبعض شماله والفلوجة قدمت مثالا كارثيا لتلوث وتشويه جينات العراقيين والذي سيستمر الاف السنين.
2- امريكا بفرض حصار صارم افقر العراق واجبره على اتباع سياسة تقشف ادت الى حرمانه من القدرة على معالجة التلوثات والتي تحتاج لخبرات عالمية متطورة لحصر الاثار وازالة بعضها وبما ان المال المتوفر هي الادنى فان انتشار التلوث كان متوقعا وطبيعيا فاستمرار الاشعاع في مختلف انحاء العراق بدون معالجات عاجلة وشاملة ادى الى حصول الاثار المتوقعة وهي اصابة مئات الالاف من العراقيين بتلوث سرطاني ظهرت اثاره على البعض وستظهر بقية الاثار على الاخرين تدريجيا.
3- عندما احتلت امريكا العراق عادت لاستخدام اليورانيوم المنضب على نطاق اوسع من السابق فزاد التلوث خصوصا في بغداد،وركزت امريكا على تفتيت قدرات العراق تدريجيا من خلال التلوث الاخلاقي والقيمي، فتعمدت افساد الناس بفرض الحرامية والساقطين والاميين وزراء واعضاء برلمان ومسؤولين امنيين وترك اسرائيل الشرقية تغير التوازن السكاني بالقتل بالامراض ونشر الاوبئة عمدا خصوصا الايدز والتهجير للملايين والعمل على القضاء على المنظومة الاخلاقية وتدمير القيم العليا، فتضافرت جهود امريكا واسرائيل الشرقية وخلفهما وبقوة اسرائيل الغربية من اجل احداث عوق اخلاقي شامل للملايين ناهيك عن التعويق الجسدي، ولهذا فان ازمة التلوث لم تعد فقط ازمة تلوث البيئة الطبيعية بل صار التلوث الاخطر هو تلوث منظومة القيم العليا، وهكذا بتلويث البيئة والقيم المتعمد بدأت رحلة تفتيت وتفكيك العراق تدريجيا وظهر تسابق واضح بين امريكا واسرائيل الشرقية لاحداث الضرر الاكبر بالعراق بشرا وتربة ومياه لتدمير مستقبل العراق وانقاص عدد سكانه الى ما بين اربعة وخمسة ملايين نسمة.
4- ما قيل عن (ان العراق سيصبح مثل اليابان والمانيا بفضل خطط مارشال امريكية جديدة) كان مجرد مخدر لمنع العراقيين من التوحد ضد امريكا واكمل هذا التضليل بتسليم العراق لعدوه الاخطر اسرائيل الشرقية وبدعم امريكا للميليشيات الايرانية،مع انها لو كانت ضدها لكان بامكانها منعها وفقا لنصوص الاتفاقية الامنية التي وقعت عند الانسحاب ونصت على منع اي تهديد للعراق سواء كان ارهابيا او غيره، لكن امريكا شجعت نظام الملالي على التمادي في تخريب العراق فنهب اكثر المبلغ الذي حققه العراق من دخل النفط وهو تريليون دولار وبموافقة امريكية مباشرة لان توفر الامكانيات المادية لها شرط مسبق لمواصلة خطة تقسيم العراق والتوسع الاستعماري الايراني في الوطن العربي.
5- ووجود حكومات اميين وفاسدين وتابعين لاسرائيل الشرقية كان عبارة مفرمة اعدتها امريكا واريد منها التقطيع التدريجي للعراق شعبا وموارد وبيئة وقيم عليا، واكمل هدف تدمير العراق بالارهاب المنظم بصيغة كتائب طوارئ تظهر للقيام بواجب محدد وهو تدمير محافظات عراقية ونشر الطائفية التي صفقت بيدين واحدة ترتدي قفازا شيعيا والثانية ترتدي قفازا سنيا باسم القاعدة وداعش والحشد الشعوبي.
6- وعندما اكملت اسرائيل الشرقية اهدافا مهمة في عملية التدمير المنظم للعراق شعبا وارضا وبيئة تقدمت امريكا لاعادة العراق الى (ولايتها)! وفي هذه المرحلة كان مطلوبا التسريع في تفتيت العراق فزادت امريكا الفوضى وبدأت مرحلة انشقاقات انصار الفرس ظاهريا وجاءت احداث البصرة تتويجا لتلك الخطة، حيث استغلت انتفاضة الناس العفوية لتنفيذ مخطط مسبق. كل تلك الخطوات من الحصار وحتى الان كانت وظيفتها اعداد البيئة المناسبة التي تضمن تقسيم العراق، ولهذا لم تكن صدفة طرح مطاليب استقلال البصرة وتمتعها بنفطها وحدها، والملفت للانتباه ان اول من طرح (انشاء اقليم البصرة) هو عبدالعزيز الحكيم زعيم (المجلس الاسلامي الاعلى)، فتقسيم العراق تلاقت حوله امريكا مع اسرائيل الشرقية فاذا كانت امريكا لاتسمح بسيطرة ايرانية كاملة على العراق فعلى الاقل يجب اقتطاع اسرائيل الشرقية لجوهرة الجنوب اي البصرة والتي تشكل موارد النفط منها حوالي ثلثي موارد العراق.
ما سبق بخطواته المتتابعة والمترابطة كان مجرد تمهيد لما هو اخطر واهم وهو انشاء منطقة استثمار عالمية تمتد من البصرة شمالا الى نهاية الخليج العربي جنوبا وتكون البصرة مقرها الرئيس وتعمل فيها شركات عالمية بسيطرة امريكية مباشرة تنهي دول الخليج العربي عمليا حتى وان بقيت صوريا.ولهذا فان خطوات ما بعد العدوان الثلاثيني كانت تتميز بانها مقدمات لعزل البصرة تدريجيا والتلويث المتعمد ليس من اسرائيل الشرقية فقط بل من امريكا ايضا،كما وضحنا، لان المطلوب لجعل البصرة مقرا استثماريا عالميا هو حرثها بالكامل وتغيير معالمها الوطنية والثقافية والسكانية جذريا لاجل بناء مدينة جديدة بناياتها وطرقها تخدم اعتبارها مقرا رئيسا لشركات عالمية ولمئات الالاف من العمل والفنيين، والتي خطط لتكون المركز العالمي الاهم للتجارة والتكنولوجيا وهي طبيعة تفرض تغيير شاملا وجذريا لطبيعة البصرة وكل منطقة الخليج العربي. امريكا وهي تواجه نهوضا كبيرا جدا منذ التسعينيات ل(التنين الصيني) وتعاظم تقدم الهند مقترنا بقفزات عسكرية وتكنولوجية روسية صادمة لامريكا وبريطانيا هو ما يجعلهما في حالة فزع شديد خصوصا وان امريكا تعاني من تدهور سريع لقدراتها الاقتصادية اوصلها لدين عام تجاوز العشرين تريليون دولار وهو رقم يفزع الاقتصاديين لانه يضعها على حافة الانهيار الممكن في اي لحظة،وزاد مشاعر امريكا بضرروة المبادرة لاكمال ضمانات منع انهاء دورها كزعيمة للعالم بتمكن روسيا من التفوق الواضح عسكريا عليها وبزيادة تصديرها للسلاح وهو تهديد تجاري خطير لان تجارة السلاح الامريكية تشكل مصدرا عظيما لمواردها من بيع الاسلحة وبقاءها قوة عظمى. ما يجري الان لايتعلق بمصير البصرة والعراق فقط بل هو مصير الامبراطورية الامريكية في زمن عاصف تتهاوى فيه قواعد السياسات الدولية وتنشأ اخرى غير مواتية للغرب ولهذا فمن يتوقع خروج العراق من نفقه المظلم الان باعادة امريكا (ولايتها) عليه ضحية وهم قاتل فامريكا تريد توفير قدرات اقتصادية من الخارج تضمن لها البقاء على قمة الهرم العالمي وما تنصيب ترامب رئيسا الا لانه تاجر جشع تحركه دوافع النهب، فكيف يكون النهب وهو يعرف انه ان لم ينهب ستزول امريكا بعد ان تفلس؟ من لاينظر الى ما يجري وفقا لهذه الصورة البانورامية المتعددة الاوجه والدوافع لن يفهم ما يجري في البصرة ولن يكتشف سبب عدم تدخل امريكا والغرب لمنع المجازر فيها رغم انها بشعة، فمن يضع خطة تقوم على تنفيذ (وعد بيكر) الذي جاهر به عزيز العراق الشهيد طارق عزيز باعادة العراق لمرحلة ما قبل الصناعة لابد له من دعم كل خطوة تفتت العراق. وامام هذه الصورة الكارثية لا خيار لنا سوى النضال بكافة الطرق من اجل هوية العراق الوطنية والقومية ووحدته واستقلاله ومهما كلف ذلك والا فمصيرنا هو المزيد من التهجير لملايين اخرى من العراقيين. Almukhtar44@gmail.com 8-9-2018 |
شبكة البصرة |
الاحد 29 ذو الحجة 1439 / 9 أيلول 2018 |
يرجى الاشارة الى شبكة البصرة عند اعادة النشر او الاقتباس المقالات والتقارير والاخبار المنشورة في شبكتنا لا تعبر عن راي الشبكة بل عن راي الكاتب فقط |