نقاش حول مفهوم الحضارة في التاريخ الإنساني
وما هي حضارة بلاد فارس على المدى التاريخي؟
ـ 2 ـ
باقر الصراف
كاتب عراقي مقيم في هولندا
الحلقة الثانية
البحوث التاريخية عن الحضارتين الرافدية والعيلامية بحوث كثيرة ووفيرة في آن معاً، حول تجلياتها في الماضي البعيد السحيق والعصور القديمة: قبل الميلاد وبعد الميلاد، بينما تفتقر “بلاد فارس” ذاتها: وهي التسمية الحقيقية لبلاد الهضبة المحصورة بين سلسلة جبال زاكروس الصخرية ومنطقة خراسان من أية شواهد متحفية ذات إعتبار تاريخي أو من وجود أية آثار ذات قيمة حضارية تاريخية، ما خلا آثار “جمشيد” في مدينة شيراز الفارسية.
وفي هذا السياق جرى الإستشهاد بالشاعر الفردوسي الذي إفتخر بتاريخ بلاد فارس عبر “ذم العرب”، ومحاولة التشهير بهم، وليس التغني بمنجزات ما يُسمى بحضارة فارس، وهو من شعراء ما بعد الفتح العربي الإسلامي لبلاد فارس، كون قادة الفتح الإسلامي والمادة البشرية لمقاتلي فتح الإسلام لبلاد فارس من العرب طُراً وحصراً.
ومما طرحته في تلك الجلسة الثرية الأفكار، فرضية المزاعم الفارسية بأنَّ معالم الحضارة الرافدية والعيلامية هي المكونات الأساسية لـ”لحضارة الفارسية”، وبالتالي تمسكها بعائدية “تمثال شريعة حمورابي” ـ مثلاً ـ لبلاد فارس كون “البلاد الغربية الإستعمارية” لمنطقة الأحواز العربية، والتي إستولى عليها الإستعماريون الغربيون في القرون الماضيات، وعثروا في أراضيها على ذلك التمثال الذي يقف فيه القائد العراقي حمورابي إلى جانب المفردات الكاملة لقوانينه، في بلاد الحضارة العيلامية المسماة بالأحواز، والتي لا علاقة حضارية لها ببلاد فارس ما عدا “العلاقة الكولينيالية الإحتلالية معها”، من جهة.
ومن جهة ثانية، أنَّ علاقة بلاد الرافدين ببلاد فارس بدأت مع الإحتلال الفارسي للعراق في العام 539 قبيل الميلاد، ومن المعلوم أنَّ 500 عام لا تكفي لإنجاز أي بناء حضاري، علماً أنه جرى تحرير بلاد الرافدين مع موجة الفتح الإسلامي الأولى للحضارة العربية الإسلامية في السنوات القليلة التي أعقبت إنتشار الدين الإسلامي وتوحد سكان الجزيرة العربية، والذين تمكنوا من دحر بلاد فارس فكرياً وعسكرياً بقيادة البطل العربي المسلم سعد بن أبي وقاص، وإرجاعها إلى حجمها الطبيعي إستجابة للحقيقة القرآنية، “ومن بعدها سيغلبون”، وشجاعة المقاتلين العرب الذين قبروا الوجود السياسي المستقل لبلاد فارس المستقلة، وفي الهضبة المحصورة بين جبال زاكروس ومنطقة خراسان.
وعندما طرح الأستاذ أبو الحارث موضوعة القامة السامقة لشاعرية حافظ الشيرازي وشاعرية سعدي الشيرازي والشاعر الكبير عمر الخيام، كان الجواب على تلك الملاحظة يتمحور حول القول: أنهما أبدعا قول الشعر في الحاضنة العربية الإسلامية، وبيئتها الثقافية التي هي جزء من الحضارة، من ناحية، وتأثرا بالقمم الشعرية العربية كالشاعر الفذ أبو الطيب المتنبي والشاعر المطبوع البحتري وربما غيرهما أيضاً، من ناحية أخرى.
وإذا تطرقنا لمعنى ومضمون الفهم الحضاري (أي المفهوم الفكري) الذي قال به الأخ الأستاذ فتح الله، فعلينا تحديد معنى “الحضارة” من الناحية العلمية، كي نستنبط المعاني الكامنة في محتوياتها، ومن ثم مقارنة وقائعها بما يتعلق ببلاد فارس، فماذا تقول البحوث العلمية عنها :
{هي نمط تطور مادي وفكري وروحي خاص بمجتمع معين، ولكن يبدو أنه يجب، لتمييز الحضارة عن الثقافة، أنْ نضيف أننا نجد ظاهرة حضارة حين تبرز قيم أكثر عمومية في سياق إجتماعي يصبح أوسع بكثير.
إنَّ الحضارة تمتد لتشمل مجالاً أوسع من الثقافة، شاملة عدة شعوب متمايزة، حيث يمكن أنْ تكون ثقافات هذه الشعوب مختلفة جزئياً، وترتفع الحضارة إلى مفهوم “مجموعة من القيم القابلة للتطبيق على النوع البشري ككل”.
إنَّ للشعوب الريفية ثقافة. ولكي يمكن التحدث عن حضارة، يجب أنْ يكون هناك أيضاً مُدن، وتستلزم الحضارة أيضاً مجموعة متماسكة من المعارف والتقنيات للسيطرة على الطبيعة وتنظيم حياة إجتماعية معقدة مع تقسيم للعمل الإجتماعي.
فالحضارة هي، إذن، مجموع العناصر الإقتصادية، والحقوقية، والثقافية، والخُلقية، والدينية، على نحو ما هي محققة في مجتمع معين، من هنا، كان التعريف الوارد في “قاموس لالند الفلسفي” : “الحضارة هي مجموعة معقدة من الظاهرات الإجتماعية، ذات طبيعة قابلة للنقل، تضم طابعاً دينياً، وخُلقياً، وجمالياً، وتقنياً، وعلمياً، مشتركة بين جميع أجزاء مجتمع واسع جداً أو عدة مجتمعات متصلة”.
إنَّ تعبير “الحضارة” يستلزم فكرة التقدم، ليس فقط المادي، بل أيضاً الفكري والخُلقي، وحين نتحدث عن الحضارة بصيغة المفرد، يكون ذلك في تعارض مع البربرية، أو حالة التوحش، ندرج في المفهوم حكماً قيمياً: إنَّ الحضارة توحي بقكرة مثل أعلى في الحياة الإنسانية في المجتمع}،[1].
ــــــــــ
المراجع والهوامش
[1] راجع قاموس المصطلحات السياسية والإقتصادية والإجتماعية، تأليف سامي ذبيان وآخرون، إصدار دار رياض الريس للكتب والنشر، لندن/المملكة المتحدة البريطانية، الطبعة الأولى، تشرين الأول/أكتوبر 1990، ص 208.
يتبع…
شبكة البصرة
الثلاثاء 27 ذي القعدة 1437 / 30 آب 2016
يرجى الاشارة الى شبكة البصرة عند اعادة النشر او الاقتباس
المقالات والتقارير والاخبار المنشورة في شبكتنا لا تعبر عن راي الشبكة بل عن راي الكاتب فقط